لكن ما فعله هذا المخرج الجدّي يجعلنا نوقف النقد عند كلمة لكن ايجابية وكبيرة أيضاً. فقد نجح عرضه لأنه جعلنا نذهب الى محترف الفن المسرحي في الأشرفية لتخطفنا كارول سماحة الى أحوالها طوال ثلاثة ارباع الساعة. تخطفنا أو ننخطف، لا فارق، المهم انها تجسد أحدى أهم صفات الممثل المسرحي حين تتخلى عن جسمها الحقيقي وتذهب الى البعيد البعيد، متقمصة شخصيتها المسرحية في أدق لحظاتها المرتجفة والصافية. تسافر كارول سماحة في شخصيتها وتجعلنا نحن المشاهدين نسافر فيها أيضاً. امرأة تأكل نفسَها وتأكلها نفسُها. امرأة ملتهمة. قاتلة ومقتولة. لا تترك لنا شيئا لنقوله، او نقداً لنسجله. لا تمنحنا أن نتثاءب. أن نملّ ونضجر. تحضر الى حدّ الغياب، وتغيب في جسمها وشخصيتها الى حدّ الحضور الهائل. تروي لنا حكايتها، متخففة من أي تفاصيل وعارية من أي حماية. حكاية نفسها وجسدها، حبها الاول وخيبتها، زواجها وطلاقها، الهجران والعودة، عتمة السقوط في فراغ الذات، في الجحيم الحارق القلب والجسم، حيث التأرجح عند الحدود الفاصلة بين الحب والفراغ، والعقل والجنون. انها حكاية امرأة عاشقة ومطعونة، تمنح عشقها كل شيء ومجاناً. امرأة طائشة، نازفة، كنبع، وبلا ابتذال. تمزقها عواصف الهاوية، لكنها تمعن في النزول اليها بلا تردد وبلا خوف، وبلا اي سقطة مسرحية. نينا تحب جرجي وتمنحه كل شيء. لكنه يخونها ويترك لها سعادة هاربة فتقرر ان تنتقم بعد ان تكتشف أنه يحب أمرأة أخرى ويستغل قصتها من أجل مسلسل تلفزيوني تؤدي عشيقته فيه دور البطولة. تلحق به الى المطعم، وهناك تستفزه بمراقصة رجل آخر فتثير غيرته وتستدرجه الى بيتها، حيث هناك، داخل البيت ووراء الباب المقفل، يجري كل شيء. طوال الثلاثة ارباع الساعة الاولى- وهو زمن التوهج المسرحي الأقصى – تؤدي كارول سماحة دورها واحدا وحيداً. امرأة يتعتمها السكر، تعود الى البيت لتملأ باحوال نفسها وجسمها فراغ هذا البيت وفراغ المشاهدين وفراغ الحال المسرحية وفضاءها. أمامها سماعة تلفون توهمنا فيها انها تخاطب رفيقتها، في حين ان هذا الإيهام مجرد ذريعة لتنزف حكايتها نزفاً، كلاماً وغناءً، فيتساقط الكلام - وضحكة الكلام – كأنه لجلجة الروح أو انهيار الجسم وهستيريته اللذيذة، نقطة نقطة، حبة حبة، او سقطة سقطة، تساقط حباتٍ من عقد مفروط، أو حباتٍ من المطر اللذيذ. في الثلاثة ارباع الساعة الاولى تروي لنا كارول حكاية نينا. خلال ذلك، يقرع الباب مراراً. إنه جرجي العائد اليها منتحلا شخصية الحارس الذي راقصها في المطعم. تتدرج نينا في اللعبة التي تنكشف لها منذ البداية، فتفتح باب الصراع على حوار مع حبيبها الخائن الذي يظهر على الخشبة للمرة الاولى. صورة الحبيب الدون جوان والخائن كانت في الخيال أعمق منها على الخشبة. وربما لم يحدب ميشال جبر على ممثله الجيد جو قديح حدبه على ممثلته. " تسقط" المسرحية في فخ التفاصيل والثرثرة المخيفة، وينهال علينا سيّل من الكلام والحوارات التي لا طائل منها. ثلاثة ارباع الساعة، هي الشق الثاني من العمل كان يمكن اختصارها بربع ساعة مثلا، لتكون خلاصة التوهج الدرامي، لا سقطته القاتلة. أجاد ميشال جبر في عمله على الممثلة. عكف عليها بخبرة المعلّم وبأناة المخرج. وطاوعته الممثلة بليونتها وذكاء جسمها وروحها وحدس حضورها اللذيذ. وقد بلغ العمل في ذلك مرتبة ممتازة. لكن الأوان لم يفت بعد كي " يصحح" ما تهافت من النص، ونعتقد أنه يسمع... ويصحح. لذا نقول له أن يختصر النص نصف الساعة كي يستمر متوهجاً وممتازاً. وانتم ايها المشاهدون، اذهبو الى محترف الفن المسرحي في مسرح مونو واحضروا كارول سماحة... " في غياب الحب والموت" لادور رازندسكي، إخراج ميشال جبر. عقل العويط .