"في ناس بالألم بيتحطّمو وناس بيتحقّرو. هي لا تحطمت ولا تحقرت. هي... كبرت بالألم"ميشال جبر في "هي في غياب الحب... والموت" لادوارد رازندسكي، ثاني عروضات "مسرح مونو" لهذا العام، يعيدنا ميشال جبر اقتباسًا وإخراجًا إلى واحد من أبرز نصوص أواخر السبعينات المسرحية (الروائية-الشعرية) الروسية المعاصرة، وقد حوّله مادة اختبار لعرض يقوم على ثنائية المرأة والرجل، الحب والانتقام، الحياة والموت، الهدنة والألم، حيث لعبة المزج دائمة بين الاتجاه السردي والحوارات الشخصية أو الذاتية. وجبر، الذي "أخذه" النص بعيدًا فتأثر به طوال فترة الاقتباس ثم التمرينات والعمل مع الممثلين، راح يطلق في الكواليس أو أمام جمهور الليلة الأولى، أفكاره ورؤاه شارحًا حركة ما ومشاهد وصياغات. فالنص الجميل لرازندسكي الذي فاق تمثيلًا الساعتين ونصف الساعة اختصرت مدته إلى ما يقارب المئة دقيقة. ومع ذلك، بدت حوارات نهاية العرض رتيبة إذ لم تخلُ من الامتداد الكلامي، رغم محاولة المخرج تحويله من البداية إلى الختام مجموعة لقطات أو مشاهد حركية تتوازى مع السياق العام للنص بإيقاعات مضبوطة. ويذكرنا جبر في عمله على نص لشخصين، لامرأة ورجل تحابا ثم افترقا بنصه المسرحي الأول في لبنان "هذيان عا خط النار" ليونسكو عن "هذيان لاثنين" واصفًا في كلتيهما حالات الانهيار والتفسّخ بين عاشقين يعيشان بعد شغف وحياة مشتركة طويلة طعم الفراق والتمزق والنهايات الصعبة. نينا وجرجي، جرجي ونينا. ولا فرق بعد الآن أيهما قذف قبل الآخر بنصف قلبه إلى خارج دائرة الحياة، إذ أنهما سيتساويان في النهاية بالألم والانكسار والهزيمة. يستحق العمل التوقف كعرض متميز بين عروض نهاية العام وخصوصًا من ناحية إدارة الممثلين. قبل شهرين من إعلان افتتاح مسرحيته للصحافة أولًا ثم للجمهور، بدا المخرج ميشال جبر متوترًا كمن يقدم عمله الأول، على قلق من كل المحيطين به وبحركة تفوق ديناميكية حركة الممثلين نفسيهما، لفتنا محدثًا الحاضرين شارحًا لهم ومقدّمًا لمن يرغب نصًا مطبوعًا عن عمله، وتلك ميزة لا بد من الإشارة إليها لدى جبر، أستاذ التمثيل في معهد الدراسات المسرحية السمعية-البصرية (جامعة القديس يوسف)، وجامعات ومحترفات أخرى والمحقق إلى الآن مجموعة من الأعمال المسرحية مع طلاب ومحترفين، فانه يتقن إلى جانب فن إعداد الممثلين، فن الاستماع والمحاورة وغالبًا ما يأخذ بآراء ناقديه إن كانت صائبة – وهذا أمر نادر في أيامنا لغالبية تعتبر النقاد أعداء ومتطفلين – ويبقى على تطور عمله كما أوضح، حتى آخر يوم عرض، على أن هذا العمل بالذات يستحق التوقف كعرض متميز بين عروض نهاية العام، وخصوصًا من ناحية إدارة الممثلين. جرجي "الاكس" فوق الروشة رأينا في العمل ككل مبرر على شيء من الوضوح. فالمسرحية الروسية والملبننة حيث جعلها جبر تدور في أمكنة تخصنا وعلى لسان شخصيتين من عندنا هما نينا (كارول سماحة) وجرجي (جو قديح)، تمتلك منذ اللحظة الأولى إمكانات وجودها، لا بل مناخها المرتبط بأجواء أمكنتها الخاصة وقد استدرجها جبر إلى صلب الدلالة السيكولوجية لممثليه وإلى الواقع في ارتهانه لهما، فالمكان-الخشبة هو هنا حالة أو إحساس في الوعي يرتبط حكمًا بملكات ومعطيات إنسانية محضة كالتخييل أو التذكر أو الحنين. بل أصبح المكان الضيق المختار حميمًا يستمد حياده من حضوره الواقعي الذي يكشف في النهاية عن مادة كافية لنموه في السياق الدرامي أو المسرحي. فتندرج التفاصيل التي تستعيدها الذاكرة عبر "الهذر اللغوي" فنجد أن لا ضابط له على الاطلاق لأنه ربما لم يتوصل لأن يكون وسيلة اتصال أو تواصل بل وسيلة لاستدراك الجسد أو لاستدراك الداخل في حميميته المحصّنة. لذلك ربما، المقاطع والفصول في عمل جبر الحالي كما في "هذيان عا خط النار" لا تنطلق من بدايات، أي أنها لا تستأنف لحظة انقضت في سياق سردي، بل تستمر في الصيغ التي تضاعف التشييء، ليس في المشهد أو في المكان فقط بل في الفعل المسرحي الذي يبدو أن لا زمن له. فالأشياء الملتبسة كلها أمامنا عرضة لنشاط بصري وذهني يحيلها جميعها إلى مدركات حسية، أي أنها لا تستقر لا في الحاسة ولا في التفكير بل في ذلك الحيّز الغامض لملكة لا يمكن أن نعلن عنها سوى في وصفها مخيلة موضوعية قادرة في كل حين على مزج الواقع وما كان يبدو عليه، لكي تظل الحقيقة في هاجس البحث لا في اليقين. وتدخل نينا (كارول سماحة) إلى مكانها المتقشف الشبيه بأي خارج من الحب بعد معركة فراق دامية بينها وبين جرجي، حبيبها السابق الذي هجرها لمغامرة جديدة مع ممثلة ناشئة. فتراها تعبر الباب الجانبي لشقتها البيروتية الصغيرة بعد أن انتصف الليل بقليل: الغرفة واسعة، والزوايا والمساحة الوسطية خالية إلا من طاولة وكنبة حمراء لها شكل شفاه حمراء، مع بعض الاكسسوارات الإضافية: زجاجة مشروب، صحن من الفطر، نص سيناريو، أحواض زهور يابسة موزعة على الشرفة. تدخل عزلة بيتها إذًا قبل أن تحكي لنا "نصّها" الذاتي، هي الممثلة المحترفة نينا، التي تعاني بعد سنوات من النجاح المهني والشهرة من تراجع وعزلة. فجورج، حبها الأول تسميه "جرجي" (ليت المخرج اختار لها اسمًا آخر...)، وتخبر صديقتها الوهمية ماريشا بواسطة هاتف (معطّل): "حلمت بأبو جريج، الاكس تبعي عم يطير بالبالون فوق الروشة... ومبارح التقيت في بالنايت كلوب مع...) وتعدّد لها أولويات حياتها الآنية: "الأكل والشرب والحكي ع التلفون". الكلبة الأمينة التقى جورج ونينا صدفة في الجامعة، عندما كان بين أعضاء اللجنة الفاحصة، رسبت في العام الأول وفي الثاني تذكرها ونجحت، وراحا يلتقيان إلى أن تحابا، فقررا العيش معًا من دون أن يقيّد أحدهما الآخر. هو "الممثل الفاشل"، كما تصفه، الذي كاد أن يصبح "طبيبًا فاشلًا". فبعد هجران فعودة، وزواج ثم طلاق لنينا وحب جديد لجرجي مع ممثلة شابة، تتابع نينا بحثها عنه، أو مطاردتها له، فتلتقيه حيث درجت العادة أن يكون مع عشيقته الجديدة، معلنة نفسها بعد الألم، بالمرأة الــ féministe، كارهة الرجال بــ "البلوزون والجينز والشعر القصير والواقف..." وتروح تراقص في تلك الليلة حارسًا افريقيًا موظفًا في السفارة الفرنسية، فقط لتغيظ جرجي، الغيور والرافض لتحررها من حبه والذي اعتاد أن تكون "الكلبة الأمينة التي تنتظر معلمها أمام باب الفرن" وتستدرجه إلى بيتها الذي حوله إلى هنغار كبير أو "ضريح ترقد فيه ظلال السعادة المفقودة". ولكن، من منهما ترك الآخر؟ فتوضح نينا: "مش أنا اللي تركته هوي اللي كان دايمًا يتركني، يتركني ويرجع ساعة اللي بدو، لأ، عم كذب، مرة واحدة بس أنا تركتو فيها...". ويتبعها جرجي إلى البيت. يقف خلف الباب وينتحل شخصية الحارس محاولًا اقناعها فتح الباب له خصوصًا وأن لا مانع لديها هي الوحيدة في بيتها من دون زوج يغار أو كلب ينبح، وعندما يقنعها وتقرر إدخاله، تستدرك أن الحارس ليس سوى جرجي الذي عاد متحجبًا هذه المرة ببعض الحاجيات التي يسترجعها من غرفته، فيواجه عتابًا من نينا عن دور "الطراش" السخيف الذي دعاها لتلعبه "بسيناريو مرت بمسلسل ولا إرث"، في حين عمد بعد انسحابه من حياتها إلى تحويل قصتهما معًا إلى مسلسل تلفزيوني، مسندًا دور البطولة فيه إلى عشيقته الممثلة. ويفاجأ جرجي بالمعلومات التي حصّلتها نينا عن سيناريو المسلسل الجديد، فتعلمه أن صديقتها ماريشا، الموظفة في التلفزيون أعطتها السيناريو كاشفة في ذلك عن علاقة جرجي الغرامية الجديدة. فيحاول كعادته أن يتهرب ويهمّ لتسلّق السلّم الفاصل بين الطبقتين، تخبره أن ماريشا نائمة في سريره وتستعد لدور جرجي في مسرحيتها الجديدة "نينايانا"، باسم ذكوري يتلاءم مع الدور هو "فورتنبراس" (شخصية من هاملت)، على أن يكون جرجي الجمهور. وتستخدم نينا الجمجمة يوريك (شخصية حفّار القبور في هاملت) اكسسوارًا بالإضافة إلى المسدس والشامبينيون وجرجي، الأسير هذه المرة قد أغلقت خلفه الباب ورمت المفتاح من النافذة لتدخل معه في حوارات صاخبة قلبت المعطيات، وأعادت توزيع الأدوار، تتهمه بالعقم هو الممثل الفاشل بينما هي قادرة على الخلق والابتكار والانطلاق من الصفر رغم عدم مبالاته لألمها وعذاباتها وعزلتها. فتجبره على الاعتراف بحبه لها، هو المتهم إياها في كل حواراتهما معًا بالجنون والعصبية والغيرة والانحراف. أداء وإخراج قد لا تنحصر "هي في غياب الحب... والموت" في المفهوم المسرحي المحدد والضيق لكونها تتخطى العرض إلى ما يبتعد عنه أو ما يليه أو ما يتممه، لكونها في بعض جوانبها مسرحية الإنسان الواحد، وإن كان العمل لشخصين، المرأة الواحدة المستوحدة، الطالعة من ليل عزلتها الطويل، من يقظتها الداخلية، من اصغائها المجبول بالهذيان والتذكر والبكاء على أطلال عمر لن يعود على الأرجح. تتوسل سماعة الهاتف للتحاور بها ومعها، كما لو كانت طرفًا ثالثًا صامتًا في العمل، وتروح تحكي وتحكي، تسترسل وتسترخي ثم تقف محتدمة غاضبة تواجه الغياب بالكلمة العاطفية والغامضة، بحركة فيها التوتر والتمرد والامتلاء. والجسد يأخذ أحجامه الأخرى، يتفلت من حصار روحه ويحوّل لغة، سياقًا من الإشارات والرموز والعينان تصغيان تناجيان أو تتلهفان تنضمان إلى حركة الجسد المستنفد كل طاقته في المسافة، وإلى الإيقاع الداخلي والاسترسال الهادئ والصاخب معًا، احتفال حقيقي بالجسد، بالصوت حين يصمت أو يهدر أو يجادل أو يغني، والحركة في انضباطها، في استرخائها أو تفلتها. انه الجسد المتفلت في حركاته، المكثف في إشاراته، الجسد الذاتي الذي لا ينفتح على الخارج إلا بقدر ما يزداد ندى وعرقًا في نفسه. الجسد الهادئ بحضوره، المنقبض في هذيانه والمفتوح على اللحظات الداخلية الحميمة. انه اللغة الأشف، المضافة إلى لغة الكلمات. اللغة الممهدة واللاحقة والمتوازية. يضج بالكلمات ثم يتوتر وينصهر ليلتم في النهاية حول نفسه، كما تفعل الصراصير الصيفية في عزلة الصقيع. وحركة المرأة، ثم الرجل لا تتعدى الأمتار القليلة حيث تحاصر الحركة نفسها وتنفتح على العالم الداخلي وعلى الآفاق العلوية دون أن تشكل مدى جماليًا صرفًا أو بعدًا تشكيليًا مجانيًا. وكأن ميشال جبر يسقط عمدًا لتفاصيل ليبقي على الجوهر. والتعبير لديه يبدأ في الجسد وينتهي في الجسد. فالمسافة الخشبية، عارية من البهرجة الخارجية، وعناصره الملموسة بعض الأدوات الصغيرة والهامشية... لعبة ممثلين تعبيرهما داخلي في الغالب، وإن امتد خارجيًا فلكي يكسر مدى الفارق الجواني وكي يؤسس على الأرجح لعلاقة ما بالخارج. والمخرج أفاد من معطيات النص وابتعد في اللعبة متعمقًا في تقشفه، جاعلًا العمل مسرحية ممثلين أولًا وأخيرًا، فأخضع الفضاء المسرحي لدراسة متقنة مستغلًا جهات المسرح الأربع والجهة العلوية أيضًا. وتمكن المخرج من اعتماد تفاصيل وأدوات بدت حاضرة حتى الهذيان رغم بعض التراجع في استخدام الضوء وحركته التي كان يفترض أن تكون أكثر تمايزًا وايقاعًا وتأثيرًا. وللموسيقى أيضًا فضاؤها في عمل جبر. فهي عربية، أجنبية وبعض أغنيات قديمة نسمعها بصوت كارول سماحة التي كانت من دون منازع عماد العمل وبطلته. لفتت في حضورها الآن، كما في "منزل برناردا البا" على مسرح بيروت و"المهاجر" على مسرح المدينة في العام 1995 من إخراج ميشال جبر، أو كما في "طقوس الإشارات والتحولات" (96-97) من إخراج نضال الأشقر على مسرح المدينة أيضًا. فكارول الممثلة والمغنية تمتلك خامة فنانة حقيقية، صادقة في حضورها ما جعلها تحصل في غضون سنوات قليلة شهرة لها في المسرح والتلفزيون لحسن اختيارها أدوارًا أو ألحانًا تتناسب مع طاقتها وموهبتها. وفي عملها الأخير، كانت المحور وجعلتنا ننحاز لها، فساقتنا طوعًا إلى عالمها وأدخلتنا سياج عزلتها، جاعلة المسافة بيننا وبين الخشبة معدومة خلناها واحدة منا، وازاءها جلسنا كشاهدين على معاناة امرأة، فتابعنا بترقب صراعها في الدفاع عن قلبها وإعلانها الصريح من وهن وألم، إزاء رجل قاس وحنون، انتهازي وحزين، تقمّصه جو قديح ولعبه بشفافية الحالمين وفظاظة العاشقين المستهترين بعاشقة اعتادت أن تنتظر معلمها ككلبة أمام باب الفرن: "تعبت من الحب الكبير. وتعبت من الركض ورا هالترف الضروري بالقرن العشرين...".
.